يسر الدين وسماحته

يسر الدين وسماحته
يظن كثير من الناس ان التشدد علامة من علامات الايمان وان خلاف ذلك تفلت وتهرب من الالتزام باحكام الدين ويتذرعون بمعاذير شتى ونسوا او تناسوا انه دين يسر وسهولة وسماحة، اليس من الواجب علينا ان نجلي هذه الحقيقة ونبصر سالكيها لنكون متبعين لا مبتدعين هادين مهتدين لا ضالين ولا مضلين؟
ومن ينظر في كتاب الله تعالى وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أن من خصائص هذا الدين اليسر والسماحة يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: >يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما، يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا< سورة النساء الآيات 26-28
ذلك ما أراده الله تعالى لهذه الامة اليسر والتخفيف وتلك صفة الدين العامة قال تعالى: >يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر< سورة البقرة آية (185) ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاني في سنته الشريفة ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ان الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) رواه البخاري.
فالدين لا يأمرنا الا بما نطيقه وهذا هو السداد والصواب لانه دين اعتدال ويسر وسهولة فالذي يتشدد ويتنطع ويترك الرفق لابد ان ينقطع ويعجز عن عمله كله او بعضه لانه لن يطيق ذلك، قال الله تعالى: >لا يكلف الله نفسا الا وسعها< سورة القرة آية (286).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى< رواه البزار.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى عليه وسلم اذا امرهم من الاعمال بما يطيقون قالوا: انا لسنا كهيئتك يارسول الله، ان الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: (ان اتقاكم واعلمكم بالله انا) رواه البخاري، وتقول عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين امرين قط الا اختار ايسرهما مالم يكن اثما، فاذا كان اثما كان ابعد الناس منه) وهذا هو الافضل والاحسن، ففي الحديث عن محجن بن الادرع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير دينكم ايسره).
ومع اليسر في الدين تتجلى السماحة والجود من الله عز وجل القائل في كتابه العزيز: >ونيسرك لليسرى< سورة الأعلى آية (8)، أي الشريعة التي تتميز باليسر والسماحة وقال تعالى: >هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة ابيكم ابراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس< سورة الحج آية (78)، وقال تعالى: >مايريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون< سورة المائدة آية (6).
وهكذا تجدون أن تعاليم الإسلام جاء بها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم سمحة ميسورة لكل انسان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اني بعثت بالحنيفية السمحة) رواه الديلمي، وفي الحديث عن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث عن سعيد بن ابي بردة عن ابيه عن جده رضي الله عنهم قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما الى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولاتنفرا وتطاوعا) رواه البخاري ومسلم.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هينا لينا وسع بخلقه العظيم الناس فالتفوا حول دعوته وآمنوا برسالته واستنوا بسنته وتفيأوا ظلال سيرته، قال الله تعالى: >ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك< سورة آل عمران آية (159).
وعن ابي الدرداء رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء اثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وان الله ليبغض الفاحش البذيء) رواه ابو داود والترمذي.
فهل نمتثل امر الله عز وجل القائل في كتابه: >ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين< سورة النمل آية (125)، وقوله تعالى: >ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم< سورة فصلت آية (34).
ان اليسر والسماحة والرفق في الدين ليتجلى في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هيجان الناس على اعرابي بال في مسجده صلى الله عليه وسلم، فعن ابي هريرة رضي الله عنه ان اعرابيا بال في المسجد فثار اليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: >دعوه واهريقوا على بوله ذنوبا من ماء او سجلا من ماء فانما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين< رواه البخاري.
نعم انه دين يسر في العبادات كلها، ففي الصلاة روى عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري وابو داود والترمذي، وشرع بدل الوضوء او الغسل لاصحاب الاعذار التيمم، وشرع قضاء الصيام دون قضاء الصلاة للمرأة الحائض، لما لقضاء الصلاة من مشقة عليها حيث في اليوم خمس صلوات.
وانه كذلك يسر في الاداء في حالات السفر والمرض والمطر والخوف والجهل والنوم والنسيان، وكذلك يسر في احكام الصيام فأباح الفطر لاهل الاعذار في رمضان قال تعالى: >فمن كان منكم مريضا او على سفر فعدة من ايام اخر< سورة البقرة آية (184)، ومن لم يستطع القضاء قال تعالى في حقه: >وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين< سورة البقرة آية (184)، وكذلك فانه أباح الفطر للمرأة الحامل والمرضع اذا خافتا على نفسيهما او ولديهما.
وهو يسر في الزكاة، فانه لا زكاة على من لا يملك نصاب الزكاة من المال، فان ملكه عليه ربع العشر، بينما كانت الزكاة ربع اموال من سبقنا، وفي الحج روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل ان انحر، فقال: اذبح ولا حرج، ثم جاءه رجل آخر فقال، يا رسول الله لم اشعر فنحرت قبل ان ارمي، فقال ارم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر الا قال افعل ولا حرج، نعم، كما يقول الراوي في حديث اخر (فما سمعته يسأل يومئذ عن امر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الامور قبل بعض وأشباهها الا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افعلوا ذلك ولا حرج) رواه البخاري ومسلم.
واذا ما دخل في اعمال العمرة والحج بالاحرام ثم حال بينه وبين اكمال نسكه مانع يمنعه من متابعته فاليسر في الدين، قال تعالى: >وأتموا الحج والعمرة لله فان احصرتم فما استيسر من الهدي< سورة البقرة آية (196).
واذا كان هناك طعام محرم فهو للمضطر مباح، قال تعالى: >انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه، ان الله غفور رحيم< سورة البقرة آية (173).
وذروة سنام الاسلام وهو الجهاد يسقط عن غير المستطيع ففي ذلك قال تعالى: >ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج< سورة الفتح آية (17).
وفي المعاملات قال تعالى: >فان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة، وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون< سورة البقرة آية (280).
ولم يقتصر الاسلام في يسره وسماحته على اتباعه بل تعداهم ليشمل كل ما على الارض، الم يقل الرسول صلى الله علــيه وســـــــلم: (في كل ذي كبد رطبة اجر) رواه البخاري ومسـلم، وقال رسول الله صلى الله عليـه وسلم: (ارحم من في الارض يرحمك من في السماء) رواه الطبراني.
وأمر الله سبحانه ببر غير المحاربين المعتدين، قال تعالى: >لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين< سورة الممتحنة آية (8)، وحرم الاسلام على المسلم ايذاء الذمي في ماله او عرضه او دمه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذميا فانا خصمه يوم القيامة..) رواه الخطيب البغدادي.
ولقد اباح الاسلام اعطاء اهل الذمة من الصدقة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان ناس لهم انسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون ان يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الاسلام فنزلت >ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون< سورة البقرة آية (272).
وعن ابن جريج في قوله تعالى: >ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا< سورة الانسان آية (8)، قال لم يكن الاسير يومئذ الا من المشركين، وعن ابي ميسرة قال: (كانوا يجمعون اليه صدقة الفطر فيعطوها ويعطي منها الرهبان، قال ابو عبيد: وانما نراهم ترخصوا في هذا لانه ليس من الزكاة انما هو من الصدقة.
فشريعة الاسلام سهلة ميسرة، قال تعالى: >ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا< سورة البقرة آية (286).
وبعد، فهذا هو ديننا بوسطيته، بلا تزمت ولا تفلت، دين اليسر والسماحة، فيه النجاة والسعادة، والا فالهلاك والشقاء، ففي الحديث عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >دعوني ما تركتكم، انما اهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم، فاذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، واذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري.

0 commentaires: